كَانَتْ شَمْسُ الصَّبَاحِ تُشْرِقُ بِأَشِعَّتِهَا الذَّهَبِيَّةِ عَلَى "مَدِينَةِ السَّلَامِ"، المَدِينَةِ الَّتِي افْتَخَرَتْ دَوْمًا بِشَوَارِعِهَا النَّظِيفَةِ وَحَدَائِقِهَا الغَنَّاءِ وَأَهْلِهَا المُسَالِمِينَ. لَكِنْ فِي الآوِنَةِ الأَخِيرَةِ، بَدَأَ هُدُوءُ المَدِينَةِ يَتَعَكَّرُ.
فَجْأَةً، دَوَّى صَوْتُ مُحَرِّكٍ غَرِيبٍ فِي أَحَدِ الشَّوَارِعِ الرَّئِيسِيَّةِ، وَانْطَلَقَتْ سَيَّارَةٌ عَجِيبَةٌ عَلَى شَكْلِ فِطِيرَةٍ ضَخْمَةٍ تَسِيرُ بِسُرْعَةٍ جُنُونِيَّةٍ، وَمِنْ نَوَافِذِهَا المَفْتُوحَةِ، كَانَ رِجَالٌ يَرْتَدُونَ أَقْنِعَةَ طُهَاةٍ يَضْحَكُونَ بِصَوْتٍ عَالٍ. كَانَتْ هَذِهِ "عِصَابَةَ الفَطَائِرِ الطَّائِرَةِ". تَوَقَّفَتِ السَّيَّارَةُ أَمَامَ "مَخْبَزِ السُّنْبُلَةِ الذَّهَبِيَّةِ"، وَنَزَلَ مِنْهَا زَعِيمُهُمْ البَدِينُ الَّذِي كَانَ يَرْتَدِي قُبَّعَةَ طَاهٍ أَكْبَرَ مِنَ البَقِيَّةِ.
صَاحَ الزَّعِيمُ بِصَوْتٍ كَالرَّعْدِ: "هَا هَا هَا! أَخْرِجُوا كُلَّ مَا لَدَيْكُمْ مِنْ كَعْكِ التُّفَّاحِ وَفَطَائِرِ الكَرِيمَةِ حَالًا!"
خَرَجَ الخَبَّازُ العَجُوزُ وَهُوَ يَرْتَعِشُ، وَقَالَ: "أَرْجُوكُمْ، لَقَدْ تَعِبْتُ فِي صُنْعِهَا طَوَالَ اللَّيْلِ!"
قَهْقَهَ الزَّعِيمُ وَهُوَ يَحْمِلُ صُنْدُوقًا كَبِيرًا مِنَ الفَطَائِرِ: "لَا تَقْلَقْ، سَنَأْكُلُهَا بِشَهِيَّةٍ! وَدَاعًا أَيُّهَا الخَبَّازُ الحَزِينُ!"
وَقَبْلَ أَنْ يَرْكَبُوا سَيَّارَتَهُمْ، أَطْلَقُوا مِنْ مِدْفَعٍ صَغِيرٍ قَذَائِفَ مِنَ الكَرِيمَةِ المُلَوَّنَةِ غَطَّتْ وَاجِهَةَ المَخْبَزِ وَبَعْضَ المَارَّةِ الأَبْرِيَاءِ. انْطَلَقَتِ العِصَابَةُ تَارِكَةً وَرَاءَهَا الفَوْضَى وَرَائِحَةَ السُّكَّرِ المَحْرُوقِ.
فِي الطَّابِقِ العُلْوِيِّ مِنْ مَبْنَى البَلَدِيَّةِ، كَانَ العُمْدَةُ "حَكِيمٌ" يَمْشِي ذِهَابًا وَإِيَابًا فِي مَكْتَبِهِ الفَاخِرِ، وَيُشَاهِدُ بِقَلَقٍ مَا حَدَثَ عَلَى عَشَرَاتِ الشَّاشَاتِ الصَّغِيرَةِ أَمَامَهُ.
قَالَ لِمُسَاعِدِهِ النَّحِيلِ: "هَذَا لَا يُحْتَمَلُ يَا "فَهمِي"! عِصَابَةٌ تَسْرِقُ الحَلْوَى؟ مَاذَا سَيَقُولُ عَنَّا التَّارِيخُ؟ يَجِبُ أَنْ نَفْعَلَ شَيْئًا!"
فَكَّرَ العُمْدَةُ لِلَحْظَةٍ، ثُمَّ لَمَعَتْ عَيْنَاهُ فَجْأَةً وَضَرَبَ بِقَبْضَتِهِ عَلَى الطَّاوِلَةِ.
صَاحَ بِحَمَاسٍ: "وَجَدْتُهَا! لَا نَمْلِكُ العَدَدَ الكَافِيَ مِنْ أَفْرَادِ الشُّرْطَةِ، إِذَنْ... سَنَفْتَحُ أَبْوَابَ "أَكَادِيمِيَّةِ حِفْظِ النِّظَامِ" لِلْجَمِيعِ! بِلَا شُرُوطٍ! بِلَا اخْتِبَارَاتٍ! كُلُّ مَنْ يَتَقَدَّمُ، سَيُقْبَلُ!"
فَتَحَ المُسَاعِدُ "فَهمِي" فَمَهُ ذُهُولًا: "وَلَكِنْ سَيِّدِي العُمْدَةَ... هَذَا قَدْ يَكُونُ... خَطِيرًا!"
قَاطَعَهُ العُمْدَةُ: "لَيْسَ أَكْثَرَ خُطُورَةً مِنْ نَفَادِ الكَعْكِ فِي المَدِينَةِ! أَعْلِنِ القَرَارَ حَالًا!"
وَبِالفِعْلِ، فِي اليَوْمِ التَّالِي، كَانَ إِعْلَانُ العُمْدَةِ مُلصَقًا فِي كُلِّ مَكَانٍ، وَبَدَأَ المُتَقَدِّمُونَ بِالتَّوَافُدِ عَلَى الأَكَادِيمِيَّةِ. لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ يَعْلَمُ أَنَّ هَذَا اليَوْمَ سَيَكُونُ بِدَايَةَ أَكْثَرِ الفُصُولِ غَرَابَةً فِي تَارِيخِ المَدِينَةِ.
أَمَامَ بَوَّابَةِ الأَكَادِيمِيَّةِ الحَدِيدِيَّةِ الضَّخْمَةِ، تَجَمَّعَ حَشْدٌ كَبِيرٌ مِنَ النَّاسِ. وَقَفَ حَارِسٌ ضَخْمٌ يُحَاوِلُ تَنْظِيمَ الدُّخُولِ، وَلَكِنَّ الأَمْرَ كَانَ أَشْبَهَ بِمُحَاوَلَةِ السَّيْطَرَةِ عَلَى قَطِيعٍ مِنَ القِطَطِ المَذْعُورَةِ.
تَوَقَّفَتْ سَيَّارَةُ شُرْطَةٍ بِصَرِيرٍ عَالٍ، وَنَزَلَ مِنْهَا شُرْطِيٌّ يُمْسِكُ بِذِرَاعِ شَابٍّ نَحِيلٍ وَسِيمٍ يُدْعَى "رَامِي". كَانَ "رَامِي" يَبْتَسِمُ بِهُدُوءٍ كَأَنَّهُ ذَاهِبٌ فِي نُزْهَةٍ.
قَالَ الشُّرْطِيُّ لِلْحَارِسِ: "هَذَا الشَّابُّ كَانَ أَمَامَهُ خِيَارَانِ: إِمَّا السِّجْنُ لِمُدَّةِ شَهْرٍ بِتُهْمَةِ بَيْعِ خَرَائِطَ وَهْمِيَّةٍ لِنُجُومِ السِّينَمَا، أَوْ الانْضِمَامُ إِلَى الأَكَادِيمِيَّةِ. لَقَدِ اخْتَارَ الأَكَادِيمِيَّةَ. حَظًّا مُوَفَّقًا لَكُمْ مَعَهُ!"
رَبَّتَ "رَامِي" عَلَى كَتِفِ الشُّرْطِيِّ وَقَالَ بِابْتِسَامَةٍ عَريضَةٍ: "لَا تَقْلَقْ، سَأَجْعَلُكَ فَخُورًا بِي يَا زَمِيلِي المُسْتَقْبَلِيَّ!"
فِي تِلْكَ الأَثْنَاءِ، كَانَ شَابٌّ آخَرُ يُدْعَى "فَوَّاز" يُحَاوِلُ المُرُورَ. أَوْقَفَهُ الحَارِسُ قَائِلًا: "قِفْ! انْتَظِرْ دَوْرَكَ!"
أَخَذَ "فَوَّاز" نَفَسًا عَمِيقًا، وَفَجْأَةً انْطَلَقَ مِنْ فَمِهِ صَوْتُ صَفَّارَةِ إِنْذَارِ الحَرِيقِ بِقُوَّةٍ. اِرْتَبَكَ الحَارِسُ وَبَدَأَ يَنْظُرُ يَمِينًا وَيَسَارًا بِذُعْرٍ. ثُمَّ تَحَوَّلَ الصَّوْتُ إِلَى مَوَاءِ قِطَّةٍ خَائِفَةٍ قَادِمٍ مِنْ أَعْلَى الشَّجَرَةِ القَرِيبَةِ. وَبَيْنَمَا كَانَ الحَارِسُ مَشْغُولًا بِالبَحْثِ عَنِ الحَرِيقِ وَالقِطَّةِ، تَسَلَّلَ "فَوَّاز" إِلَى الدَّاخِلِ وَهُوَ يُغَطِّي فَمَهُ لِيَكْتُمَ ضَحْكَتَهُ.
وَمِنْ بَيْنِ الحُشُودِ، ظَهَرَ شَابٌّ قَوِيُّ البِنْيَةِ يُدْعَى "بَارُود"، يَجُرُّ وَرَاءَهُ حَقِيبَةَ سَفَرٍ مَعْدِنِيَّةً أَكْبَرَ مِنْهُ حَجْمًا. تَعَثَّرَتْ عَجَلَاتُ الحَقِيبَةِ فِي حَجَرٍ صَغِيرٍ، فَانْقَلَبَتِ الحَقِيبَةُ وَانْفَتَحَتْ، وَتَنَاثَرَتْ مِنْهَا أَشْيَاءُ غَرِيبَةٌ: حِذَاءٌ مُزَوَّدٌ بِنَوَابِضَ، وَنَظَّارَةٌ بِهَا ثَلَاثُ عَدَسَاتٍ، وَمِظَلَّةٌ انْطَلَقَتْ فَجْأَةً وَأَطَاحَتْ بِقُبَّعَةِ الحَارِسِ.
صَاحَ "بَارُود" بِحَمَاسٍ شَدِيدٍ وَهُوَ يَلُمُّ أَغْرَاضَهُ: "يَا لَلرَّوْعَةِ! هَذِهِ اخْتِرَاعَاتِي الخَاصَّةُ لِمُكَافَحَةِ الجَرِيمَةِ! هَذَا الحِذَاءُ لِلْقَفْزِ فَوْقَ المَبَانِي، وَهَذِهِ النَّظَّارَةُ لِلرُّؤْيَةِ خِلَالَ الجُدْرَانِ... لَكِنَّهَا لَا تَعْمَلُ بَعْدُ!"
وَبَيْنَمَا كَانَ الجَمِيعُ مُنْشَغِلًا بِـ"بَارُود" وَاخْتِرَاعَاتِهِ، وَصَلَ رَجُلٌ ضَخْمٌ كَالجَبَلِ، يَمْشِي بِهُدُوءٍ وَلُطْفٍ. كَانَ اسْمُهُ "جَبَل". رَأَى سَيِّدَةً عَجُوزًا تُحَاوِلُ حَمْلَ سَلَّةِ فَاكِهَةٍ ثَقِيلَةٍ. اِبْتَسَمَ "جَبَل" بِدِفْءٍ وَقَالَ بِصَوْتٍ هَادِئٍ: "اسْمَحِي لِي يَا خَالَتِي، سَأَحْمِلُهَا عَنْكِ."
أَمْسَكَ السَّلَّةَ بِيَدٍ وَاحِدَةٍ، وَلَكِنَّهُ مِنْ فَرْطِ حَمَاسِهِ لِلْمُسَاعَدَةِ، ضَغَطَ عَلَيْهَا بِقُوَّةٍ أَكْثَرَ مِنَ اللَّازِمِ، فَتَحَوَّلَتْ حَبَّاتُ البُرْتُقَالِ وَالتُّفَّاحِ إِلَى عَصِيرٍ فِي لَحْظَةٍ. نَظَرَ "جَبَل" إِلَى السَّلَّةِ بِأَسَفٍ وَقَالَ: "أَنَا... أَنَا آسِفٌ جِدًّا!"
فِي سَاحَةِ التَّدْرِيبِ الوَاسِعَةِ، وَقَفَ المُجَنَّدُونَ الجُدُدُ فِي صَفٍّ غَيْرِ مُنْتَظَمٍ أَمَامَ مِنْصَّةٍ خَشَبِيَّةٍ. كَانُوا يُشْبِهُونَ أَيَّ شَيْءٍ إِلَّا جُنُودَ المُسْتَقْبَلِ. وَقَفَ عَلَى المِنَصَّةِ النَّقِيبُ "غَضْبَان"، مُدِيرُ الأَكَادِيمِيَّةِ، وَكَانَ اسْمُهُ يُعَبِّرُ عَنْ حَالَتِهِ الدَّائِمَةِ. كَانَ وَجْهُهُ أَحْمَرَ اللَّوْنِ، وَشَارِبُهُ الكَثِيفُ يَرْتَجِفُ مِنْ شِدَّةِ الغَضَبِ.
صَرَخَ النَّقِيبُ "غَضْبَان" فِي مُكَبِّرِ الصَّوْتِ: "صَمْتًا! أَنْتُمْ هُنَا لِتُصْبِحُوا حُمَاةَ المَدِينَةِ! لِتَكُونُوا رَمْزًا لِلنِّظَامِ! وَأَنَا أَرَى أَمَامِي أَكْبَرَ تَجَمُّعٍ لِلْفَوْضَى فِي حَيَاتِي! لَا هَمْسَ! لَا كَلَامَ! لَا ضَحِكَ!"
فَجْأَةً، انْطَلَقَ صَوْتُ بِطَّةٍ عَالٍ مِن بَيْنِ الصُّفُوفِ. اِسْتَدَارَ النَّقِيبُ بِسُرْعَةٍ وَصَاحَ: "مَنْ؟! مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ؟!"
أَخْفَى "فَوَّاز" ابْتِسَامَةً مَاكِرَةً وَنَظَرَ إِلَى السَّمَاءِ بِبَرَاءَةٍ.
رَفَعَ "بَارُود" يَدَهُ بِقُوَّةٍ حَتَّى كَادَ يَضْرِبُ زَمِيلَهُ الوَاقِفَ بِجَانِبِهِ.
"سَيِّدِي النَّقِيبَ! سُؤَالٌ! مَتَى سَنَتَسَلَّمُ الدَّبَّابَاتِ؟"
أَغْلَقَ النَّقِيبُ "غَضْبَان" عَيْنَيْهِ وَحَاوَلَ أَنْ يَتَنَفَّسَ بِعُمْقٍ. وَقَفَتْ بِجَانِبِهِ المُدَرِّبَةُ "نَادِرَة"، امْرَأَةٌ طَوِيلَةٌ وَقَوِيَّةٌ تَنْظُرُ إِلَى الجَمِيعِ بِعَيْنَيْنِ حَادَّتَيْنِ كَالصَّقْرِ، لَمْ تَنْطِقْ بِكَلِمَةٍ، لَكِنَّ نَظْرَتَهَا وَحْدَهَا كَانَتْ كَافِيَةً لِجَعْلِ المُجَنَّدِينَ يَبْلَعُونَ رِيقَهُمْ.
أَكْمَلَ النَّقِيبُ خِطَابَهُ: "تَدْرِيبُكُمُ الأَوَّلُ... سَيَكُونُ تَجَاوُزَ مَيْدَانِ الحَوَاجِزِ! لِنَرَى مَنْ مِنْكُمْ يَمْلِكُ مَا يَلْزَمُ لِيَكُونَ شُرْطِيًّا!"
كَانَ مَيْدَانُ الحَوَاجِزِ مُخِيفًا. فِيهِ جِدَارٌ خَشَبِيٌّ عَالٍ، وَحُفْرَةٌ مَلِيئَةٌ بِالطِّينِ، وَحِبَالٌ تَتَدَلَّى فَوْقَ بِرْكَةِ مَاءٍ.
أَعْطَى النَّقِيبُ إِشَارَةَ البَدْءِ، فَانْطَلَقَ الجَمِيعُ بِفَوْضَى. "رَامِي" لَمْ يُحَاوِلْ تَسَلُّقَ الجِدَارِ، بَلْ أَقْنَعَ مُجَنَّدَيْنِ بِأَنْ يَحْمِلَاهُ لِيَرَى مَا خَلْفَ الجِدَارِ، وَعِنْدَمَا وَصَلَ لِلأَعْلَى قَفَزَ لِلْجِهَةِ الأُخْرَى وَتَرَكَهُمَا.
أَمَّا "بَارُود"، فَقَدْ أَخْرَجَ حِذَاءَهُ ذَا النَّوَابِضِ لِيَقْفِزَ فَوْقَ حُفْرَةِ الطِّينِ، لَكِنَّهُ أَخْطَأَ فِي الحِسَابَاتِ، فَانْطَلَقَ عَالِيًا فِي الهَوَاءِ ثُمَّ سَقَطَ فِي مُنْتَصَفِ الحُفْرَةِ مُحْدِثًا طَرْطَشَةً كَبِيرَةً غَطَّتْ كُلَّ مَنْ حَوْلَهُ بِالطِّينِ.
"جَبَل" وَصَلَ إِلَى الحِبَالِ المُتَدَلِّيَةِ، وَرَأَى فَتَاةً خَجُولَةً جِدًّا تُدْعَى "هَمْسَة" تَخَافُ مِنَ القَفْزِ. قَالَ لَهَا بِلُطْفِهِ المعهودِ: "لَا تَخَافِي، سَأُمْسِكُ الحَبْلَ لَكِ لِيَكُونَ ثَابِتًا." وَلَكِنْ عِنْدَمَا أَمْسَكَ الحَبْلَ، سَحَبَهُ بِقُوَّةٍ أَكْبَرَ مِنَ اللَّازِمِ، فَاقْتَلَعَ العَمُودَ الخَشَبِيَّ الَّذِي كَانَ يُثَبِّتُ كُلَّ الحِبَالِ، وَسَقَطَتْ كُلُّهَا فِي المَاءِ.
وَقَفَتْ "هَمْسَة" وَحِيدَةً وَقَدْ غَطَّاهَا الطِّينُ وَالمَاءُ. بَدَأَ بَعْضُ المُجَنَّدِينَ الَّذِينَ تَمَكَّنُوا مِنَ العُبُورِ بِالضَّحِكِ عَلَيْهَا.
قَالَ أَحَدُهُمْ بِسُخْرِيَةٍ: "انْظُرُوا! إِنَّهَا تَبْكِي! كَيْفَ سَتُصْبِحُ شُرْطِيَّةً؟"
اِحْمَرَّ وَجْهُ "هَمْسَة" مِنَ الخَجَلِ وَالغَضَبِ. حَاوَلَتْ أَنْ تَقُولَ "اتْرُكُونِي وَشَأْنِي!"، لَكِنَّ صَوْتَهَا خَرَجَ هَمْسًا لَمْ يَسْمَعْهُ أَحَدٌ. تَجَمَّعَتِ الدُّمُوعُ فِي عَيْنَيْهَا، وَمَعَ الدُّمُوعِ، تَجَمَّعَ غَضَبٌ كَبِيرٌ فِي صَدْرِهَا. فَجْأَةً، فَتَحَتْ فَمَهَا، وَبَدَلًا مِنَ الهَمْسِ، انْطَلَقَتْ مِنْ حَنْجَرَتِهَا صَرْخَةٌ هَائِلَةٌ، قَوِيَّةٌ كَصَوْتِ الرَّعْدِ.
"كَفَى!!!"
اهْتَزَّتِ الأَرْضُ تَحْتَ أَقْدَامِهِمْ. تَحَطَّمَ زُجَاجُ نَوَافِذِ مَكْتَبِ النَّقِيبِ "غَضْبَان". تَطَايَرَتْ قُبَّعَاتُ المُجَنَّدِينَ فِي الهَوَاءِ. وَالجِدَارُ الخَشَبِيُّ الضَّخْمُ الَّذِي كَانَ فِي بِدَايَةِ المَسَارِ، تَصَدَّعَ وَانْهَارَ.
سَادَ صَمْتٌ رَهِيبٌ. كُلُّ العُيُونِ كَانَتْ مُتَّجِهَةً نَحْوَ "هَمْسَة" الَّتِي كَانَتْ تَقِفُ وَسَطَ الدَّمَارِ وَهِيَ تَلْهَثُ، مَصْدُومَةً مِنْ قُوَّتِهَا مِثْلَ الآخَرِينَ. حَتَّى النَّقِيبُ "غَضْبَان" كَانَ فَمُهُ مَفْتُوحًا مِنْ شِدَّةِ الذُّهُولِ، وَقَدْ سَقَطَ شَارِبُهُ المُسْتَعَارُ فِي بِرْكَةِ المَاءِ دُونَ أَنْ يُلَاحِظَ.
فِي وَقْتٍ لَاحِقٍ، فِي مَكْتَبِهِ الَّذِي أَصْبَحَ بِلَا نَوَافِذَ، كَانَ النَّقِيبُ "غَضْبَان" يَضَعُ رَأْسَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ وَيُتَمْتِمُ: "لَقَدْ كَانَتْ فِكْرَةَ العُمْدَةِ... لَقَدْ كَانَتْ فِكْرَةَ العُمْدَةِ..."
أَمَّا فِي غُرْفَةِ المُراقَبَةِ، فَكَانَتِ المُدَرِّبَةُ "نَادِرَة" تُعِيدُ مَشْهَدَ صَرْخَةِ "هَمْسَة" مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ عَلَى الشَّاشَةِ. ثُمَّ ارْتَسَمَتْ عَلَى شَفَتَيْهَا ابْتِسَامَةٌ خَفِيفَةٌ جِدًّا، وَكَتَبَتْ فِي دَفْتَرِ مُلَاحَظَاتِهَا: "الفَرِيقُ الأَوَّلُ: قُوَّةٌ خَامَةٌ. فَوضَوِيُّونَ. لَكِنْ... هُنَاكَ إِمْكَانِيَّاتٌ."
بَعِيدًا عَنِ الأَكَادِيمِيَّةِ، فِي مَخْبَأٍ سِرِّيٍّ تَحْتَ مَصْنَعٍ قَدِيمٍ لِلْخُبْزِ، كَانَتْ "عِصَابَةُ الفَطَائِرِ الطَّائِرَةِ" تَحْتَفِلُ بِنَجَاحِهَا. كَانَ زَعِيمُهُمْ يَقِفُ أَمَامَ خَرِيطَةٍ كَبِيرَةٍ لِلْمَدِينَةِ مَرْسُومَةٍ بِالشُّوكُولَاتَةِ السَّائِلَةِ.
قَالَ الزَّعِيمُ وَهُوَ يَضْرِبُ بِإِصْبَعِهِ عَلَى مَبْنًى كَبِيرٍ فِي وَسَطِ الخَرِيطَةِ: "لَقَدْ كَانَتْ سَرِقَةُ المَخَابِزِ مُجَرَّدَ تَسْخِينٍ! هَدَفُنَا القَادِمُ، يَا رِفَاقِي، هُوَ "مَصْنَعُ الكَعْكِ المَلَكِيِّ"! أَكْبَرُ مَصْنَعٍ فِي البِلَادِ! تَخَيَّلُوا... جِبَالٌ مِنَ الكَعْكِ! أَنْهَارٌ مِنَ الشُّوكُولَاتَةِ! سَتَكُونُ سَرِقَةَ القَرْنِ!"
ضَحِكَ أَفْرَادُ العِصَابَةِ ضِحْكَةً شِرِّيرَةً مُدَوِّيَةً، وَارْتَفَعَ صَوْتُ ضَحِكَاتِهِمْ فِي المَكَانِ، مُعْلِنًا عَنْ بِدَايَةِ تَحَدٍّ جَدِيدٍ لِأَغْرَبِ فَرِيقٍ مِنْ حُمَاةِ النِّظَامِ الَّذِينَ لَمْ يَتَخَرَّجُوا بَعْدُ.
تعليقات
إرسال تعليق